استهل البابا تعليمه الأسبوعي لافتا إلى أننا نتابع اليوم تأملاتنا حول التمييز، ويمكن أن يساعدنا النظر في شهادة حياة واقعية. ومن بين الأمثلة البناءة يمكن الإشارة إلى القديس أغناطيوس دي لويولا، وبالتحديد إلى حادثة مقررة في حياته. كان أغناطيوس في بيته يتعافى بعد أن أصيب في ساقه خلال إحدى المعارك. وكي يقضي على الضجر طلب شيئاً يقرأه. كان يحب روايات الفروسية، لكن للأسف لم يكن يوجد في بيته سوى كتب عن حياة القديسين. تأقلم مع هذا الواقع رغماً عنه بعض الشيء، لكن خلال المطالعة راح يكتشف عالماً آخر، اكتشف عالماً أدهشه، ويبدو أنه يتنافس مع عالم الفروسية. لقد أدهشته سيرة حياة القديسَين فرنسيس ودومينيك، وشعر بالرغبة في الاقتداء بهما. لكن عالم الفروسية ظل يسحره، وهكذا استشعر بداخله بتعاقب أفكار بدت أنها متساوية.
أن إغناطيوس بدأ يلحظ الاختلافات. ففي سيرته الذاتية كتب عن نفسه بصيغة الغائب: “خلال تفكيره في أمور هذا العالم شعر بالسرور الكبير، لكن عندما كان يتخلى عنها بدافع التعب كان يشعر بالفراغ والخيبة. بيد أن التوجه إلى القدس حافي القدمين، وعدم تناول الطعام باستثناء الأعشاب، وممارسة كل أشكال التقشف، التي اعتاد عليها القديسون، أفكار حملت له التعزية، وحتى عندما كان يتخلى عنها كانت تتركه راضياً ومفعماً بالفرح”. أنه في هذه الخبرة يمكننا أن نلحظ بعدين اثنين: أولا الزمن. إن أفكار العالم لها جاذبية في بادئ الأمر، لكن سرعان ما تفقد رونقها وتترك مكانها فراغاً واستياء. أما أفكار الله، فهي على العكس، تُحدث في الإنسان أولا شيئاً من المقاومة، لكن عندما يقبلها تقوده إلى سلام لم يختبره من قبل، ويدوم مع مرور الزمن. أما البعد الثاني فهو نقطة وصول الأفكار. ففي بادئ الأمر لا يبدو الوضع واضحاً تماما. هناك نمو في التمييز. ندرك ما هو خيّر بالنسبة لنا، لا بطريقة مجردة وعامة، بل خلال مسيرة حياتنا. في أعقاب هذه الخبرة الأساسية من حياته تحدث أغناطيوس عن قواعد التمييز التي تساعدنا على فهم هذه العملية. وكتب أنه بالنسبة للأشخاص الذين ينتقلون من خطية مميتة إلى أخرى، يقترح إبليس عادة ملذات عابرة، ويجعل هؤلاء يتخيلون ملذات حسية، كي يسيطر عليهم بشكل أفضل ويجعلهم ينمون في عاداتهم السيئة وخطاياهم. مع هؤلاء يستخدم الروح الطيب النموذج المعاكس، إذ يحفّز ضميرهم على الندم من خلال حكم العقل. إن ثمة قصة تسبق من يميّز، قصة لا بد من التعرف عليها، لأن التمييز ليس ضرباً من العرافة أو القدرية، كمن يقوم بالقرعة بشأن إمكانيتين. إن التساؤلات الكبرى تطرح نفسها عندما نكون قد اجتزنا جزءا من مسيرتنا في الحياة، وينبغي أن نعود إلى هذه المسيرة لنفهم عما نبحث. إن إغناطيوس، وعندما كان مصاباً في بيته الوالدي، لم يكن يفكر إطلاقاً بالله أو بكيفية إصلاح حياته. لقد قام باختباره الأول عن الله من خلال الإصغاء إلى قلبه، الذي أظهر له مفارقة غريبة: إن الأمور التي تبدو جذابة للوهلة الأولى تركته خائباً، وفي أمور أخرى، أقل رونقاً وتألقاً، شعر بسلام يستمر مع مرور الزمن. لهذا السبب اقترح إغناطيوس لاحقاً قراءة سيرة القديسين، لأنها تعكس، بطريقة روائية يسهل فهمها، نمط الله في حياة أشخاص لا يختلفون عنا كثيرا. إن أفعالهم تحاكي أفعالنا وتساعدنا على فهم معناها. في هذه الواقعة الشهيرة يمكننا أن نتعرف على بعد آخر هام فيما يتعلق بالتمييز، والذي تحدثنا عنه في المرة الفائتة. ثمة صدف ظاهرة في مسيرة الحياة. كل شيء يبدو أنه يولد من حادثة ما: لم تكن توجد كتب عن الفروسية، فقط عن حياة القديسين. هذه الحادثة حملت في طياتها تحولاً ممكنا. وبعد فترة قصيرة أدرك أغناطيوس ذلك، وصب كل اهتمامه هناك. إن الله يعمل من خلال أحداث لا يمكن أن تُبرمج. وقد رأينا ذلك في مقطع من إنجيل القديس متى. فكان رجل يفلح حقلا، ووجد صدفة كنزاً مدفونا. إنه وضع لم يكن متوقعاً إطلاقا. لكن المهم هو أن هذا الرجل رأى أن الحظ حالفه في حياته، وقرر لاحقاً أن يبيع كل ما يملك ويشتري ذلك الحقل. التمييز هو المساعدة التي تمكّن من التعرف على العلامات التي نلتقي من خلالها بالرب في أوضاع لم تكن في الحسبان، حتى عندما تكون غير سارة، كما حصل مع إغناطيوس ومع إصابته في ساقه. من خلال هذه الأوضاع يمكن أن يولد لقاء يبدل الحياة إلى الأبد. في ختام مقابلته العامة مع المؤمنين، وبعد أن حيا المسنين والشبان والمرضى والأزواج الجدد، قال البابا فرنسيس إنه لا يسعه أن ينسى أوكرانيا الجريحة لافتا إلى أنه إزاء سيناريوهات الحرب في زماننا الراهن، لا بد أن يكون كل شخص صانع السلام، وأن يصلي كي تنتشر في العالم أفكار ومشاريع للتوافق والمصالحة. وقال: إننا نشهد اليوم حرباً عالمية! توقفوا من فضلكم! وأوكل إلى شفاعة العذراء مريم ضحايا الحرب، وبنوع خاص تلك الدائرة في أوكرانيا. هذا ثم منح الجميع بركاته الرسولية. |
التعليقات مغلقة.