أجرى البابا فرنسيس صباح اليوم كعادته في كل أربعاء مقابلته العامة المعتادة مع المؤمنين، وبدأ سلسلة جديدة من التعاليم حول موضوع “التمييز”. لفت الحبر الأعظم إلى أن التمييز متعب لكنه ضروري بالنسبة للعيش، ويتطلب منا أن نعرف أنفسنا وما هو خيّر بالنسبة لنا، مضيفا أن الله يدعونا إلى التقييم والاختيار: لقد خلقنا أحراراً، ويريد أن نمارس حريتنا. لذا إن التمييز هو عمل ملزم.
أيها الأخوة والأخوات الأعزاء، صباح الخير! نبدأ اليوم سلسلة من التعاليم، بعد أن أنهينا التعاليم حول الشيخوخة، نبدأ سلسلة جديدة حول موضوع “التمييز”. التمييز هو عمل هام يعني الجميع، لأن الخيارات هي جزءٌ أساسي من الحياة. يختار المرء الطعام، واللباس والمسيرة الدراسية، والعمل والعلاقات. وفي كل هذه الأمور يتكوّن مشروع حياة، فضلا عن علاقتنا بالله.
إن يسوع يحدثنا في الإنجيل عن التمييز مستخدماً صوراً مأخوذة من الحياة العادية؛ إنه يصف، على سبيل المثال، الصيادين الذين يختارون الصيد الجيد ويرمون السيء؛ أو التاجر الذي يتعرف على اللؤلؤة النفيسة، وسط الكثير من اللآلئ؛ أو الشخص الذي يفلح الحقل، ويعثر عن شيء يتضح أنه كنز. في ضوء هذه الأمثلة – مضى البابا فرنسيس إلى القول – يُقدَّم التمييز على أنه تمرينٌ للذكاء، وللخبرة وأيضا للرغبة في الإفادة من اللحظة المؤاتية. هذه هي الشروط التي تسمح باتخاذ الخيار الصائب. ثمة حاجة إلى الذكاء والخبرة وأيضا إلى الرغبة في القيام بالخيار الصائب. وهناك أيضا ثمنٌ لذلك كي يصبح التمييز فاعلاً وعملياً. فلكي يقوم بمهنته على أكمل وجه، على الصياد أن يتعب، وأن يمضي ليالٍ طويلة في البحر، ويتعين عليه أيضا أن يرمي جزءا من الصيد، ويتقبل بذلك خسارةً في الأرباح لصالح المستفيدين من نشاطه. أما تاجرُ اللآلئ فلا يتردد في إنفاق كل ما لديه لشراء تلك اللؤلؤة. وهذا ما يفعله أيضا الرجل الذي يعثر على الكنز. إنها أوضاع لم تكن في الحسبان، لم تكن مبرمجةً، وحيث من الضروري أن يدرك المرء أهمية وإلحاحية القرار الواجب اتخاذه. على كل واحد منا أن يتخذ القرارات، ولا يوجد من يتخذها عنا. باستطاعة البالغين الأحرار أن يطلبوا نصيحة، لكن القرار هو قراراهم. على كل واحد منا أن يقرر، لذا لا بد أن نعرف كيف نميّز: كي نتخذ القرارات الجيدة من الضروري أن نعرف أن نميّز. إن الإنجيل يقترح علينا ناحية أخرى مهمة من التمييز: إنه يشمل أيضا العواطف. إن من وجد الكنز لم يشعر بصعوبة بيع كل شيء، لأن فرحه عظيم جدا. والعبارة التي استخدمها القديس متى البشير، تدل على فرح خاص ومميّز: فرح لا يستطيع أن يقدّمه أي واقع بشري. ويستخدم العبارة نفسها في مقاطع أخرى في الإنجيل، التي تتعلق باللقاء مع الله. إنه فرح المجوس الذين، وبعد سفر طويل وشاق، يرون النجم من جديد؛ إنه فرح النسوة العائدات من القبر الفارغ بعد أن سمعن إعلان القيام من قبل الملاك. إنه فرحُ من وجد الرب. إن اتخاذ القرار الصائب يقود دائما إلى هذا الفرح النهائي: ربما قد يتألم الشخص خلال مسيرته بسبب عدم اليقين، والتفكير والبحث، لكن في نهاية المطاف يقود القرار الصائب إلى الفرح. في الدينونة الأخيرة سيمارس الله التمييز تجاهنا. إن صور الفلاح والصياد والتاجر ليست إلا أمثلة عما يحصل في ملكوت السماوات، الذي يتجلى من خلال الأفعال العادية في الحياة، والتي تتطلب اتخاذ المواقف. لذا من الأهمية بمكان أن نعرف كيف نميّز: فالخيارات الكبيرة يمكن أن تُولَد من ظروف يبدو للوهلة الأولى أنها ثانوية، لكن يظهر بعدها أنها مقررة. لنفكر باللقاء الأول لأندراوس ويوحنا مع يسوع، لقاء وُلد من سؤال بسيط: “ربي، أين تمكث؟” – “تعاليا وانظرا”. إنه حوار قصير جداً، لكنه شكّل بداية تحوّلٍ طبع حياتهما كلَّها. وبعد سنوات، ما يزال يتذكر القديس يوحنا البشير هذا اللقاء الذي غيّره إلى الأبد، وهو يتذكّر أيضا الساعة: “نحو الساعة العاشرة” (أي الرابعة من بعد الظهر). إنها الساعة التي التقى بها الزمن والأبدية في حياة يوحنا. وفي القرار الصائب والجيد تلتقي إرادة الله مع إرادتنا، كما تلتقي مسيرة الحياة بمسيرة الأبدية. اتخاذ القرار الصائب بعد مسيرة من التمييز، يعني حصول اللقاء بين الزمن والأبدية. المعرفة والخبرة والعواطف والرغبة: هذه هي بعض عناصر التمييز التي لا غنى عنها. وخلال سلسلة التعاليم سنتطرق إلى عناصر أخرى، لا تقل أهمية. فالتمييز، مضى البابا قائلا، يقتضي التعب. فبحسب الكتاب المقدس، إننا لا نجد الحياة التي ينبغي أن نعيشها جاهزةً معلبةً أمامنا. علينا أن نختارها باستمرار، وفقاً للوقائع التي تطرأ أمامنا. إن الله يدعونا إلى التقييم والاختيار: لقد خلقنا أحراراً، ويريد أن نمارس حريتنا. لذا إن التمييز هو عمل ملزم. لقد عشنا غالباً هذه الخبرة: أن نختار شيئاً ما بدا أنه خيّر لكنه لم يكن كذلك. أو أن نعرف ما هو خيّر بالنسبة لنا، دون أن نختاره. إن الإنسان، خلافا للحيوان، يمكن أن يخطئ وأن يرفض الاختيار الصائب. والكتاب المقدس يُظهر ذلك منذ صفحاته الأولى. لقد أعطى الله للإنسان تعليمات واضحة: إذا أردتَ أن تعيش، وأن تتذوق الحياة، تذكّر أنك مخلوق، وأنك لستَ معيار الخير والشر، وأن الخيارات التي تقوم بها ستترتب عليها نتائج بالنسبة لك، وللآخرين والعالم كله؛ يمكنك أن تجعل من الأرض جنة جميلة، أو بريّة الموت. إنه تعليم جوهري: وليس من قبيل الصدفة أنه كان أول حوار بين الله والإنسان. والحوار هو أن الرب أعطى الإنسان رسالة، وعلى هذا الأخير أن يميّز القرارات مع كل خطوة يخطوها. التمييز هو عبارة عن تأمل العقل والقلب، ولا بد أن نقوم به قبل اتخاذ أي قرار. أن التمييز متعبٌ لكنه ضروري من أجل العيش. يتطلب مني أن أعرف نفسي وأن أعرف ما هو خيّر لي، هنا والآن. إنه يتطلب قبل كل شيء علاقة بنوية مع الله. فالله أبٌ ولا يتركنا لوحدنا، إنه مستعد دوماً لنصحنا وتشجيعنا وقبولنا. لكنه لا يفرض أبداً إرادته. لماذا؟ لأنه يريد أن يُحبّ لا أن يُهاب. والله يريدنا أبناء لا عبيدا، إنه يريدنا أبناءً أحرارا. والمحبة يمكن أن تعاش فقط في إطار الحرية. وختم البابا تعليمه الأسبوعي قائلا: كي نتعلم أن نعيش علينا أن نتعلم أن نحبّ، لذا من الضروري أن نميّز ونتساءل: ماذا يمكننا أن نفعل أمام هذا البديل؟ ليكن مؤشراً لمزيد من الحب، لمزيد من النضوج في المحبة. ليهدنا الروح القدس! لنستدعِه في كل يوم، خصوصا عندما نريد أن نتخذ الخيارات. |
التعليقات مغلقة.