أجرى قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم الأربعاء مقابلته العامة مع المؤمنين في قاعة بولس السادس بالفاتيكان واستهل تعليمه الأسبوعي بالقول اليوم، وقبل أيام قليلة من عيد الميلاد، أود أن أتذكر معكم الحدث الذي لا يمكن للتاريخ أن يتجاهله: ولادة يسوع.
حفاظًا على الأَمر الصادر عنِ القَيصَرِ أَوغُسطُس بِإِحْصاءِ جَميعِ أَهلِ الـمَعمور، والذي كان يفترض أن يذَهبَ جَميعُ النَّاسِ لِيَكَتتِبَ كلُّ واحِدٍ في مَدينتِه، نزل يوسف ومريم من الناصرة إلى بيت لحم. وما إن وصلا بحثا فورًا عن مكان ليقيما فيه، لأن الولادة كانت قد أصبحت وشيكة؛ لكن للأسف لم يجدا لهما مكانًا، فاضطرت مريم إلى أن تلد ابنها في مذود. لنفكر: لم يُمنح خالق الكون مكانًا يولد فيه! ربما كان ذلك استباقًا لما يقوله الإنجيلي يوحنا: “جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه”؛ وعن ما سيقوله يسوع نفسه: “إِنَّ لِلثَّعالِبِ أَوجِرَة ولِطُيورِ السَّماءِ أَوكاراً، وأَمَّا ابنُ الإِنسان فلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه”.
إنَّ ملاكًا قد أعلن ولادة يسوع، وقد قام بذلك لرعاة متواضعين. ونجم أظهر للمجوس الطريق لكي يبلغوا إلى بيت لحم. الملاك هو رسول الله، والنجم يذكِّر بأن الله خلق النور وأن ذلك الطفل سيكون “نور العالم”، كما سيصف نفسه لاحقًا، “النُّورُ الحَقّ الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان”، والنُّورُ الذي “يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات”.
يجسّد الرعاة فقراء إسرائيل، أشخاص متواضعون يعيشون في الداخل ويدركون نقصهم، ولهذا السبب بالتحديد يثقون بالله أكثر من غيرهم. فهم أول من رأوا ابن الله المتجسد، وهذا اللقاء غيّرهم بعمق. ويقول الإنجيل أنهم رجعوا “وهم يُمَجِّدونَ الله ويُسَبِّحونَه على كُلِّ ما سَمِعوا ورَأَوا كَما قيلَ لَهم”. حول الطفل يسوع كان هناك أيضًا المجوس. لا تخبرنا الأناجيل أنهم كانوا ملوكًا ولا عددهم ولا أسمائهم. نحن نعلم على وجه اليقين فقط أنهم من بلد بعيد في الشرق (يمكننا أن نفكر في بلاد فارس أو بابل أو جنوب شبه الجزيرة العربية) انطلقوا بحثًا عن ملك اليهود، الذي يعترفون في قلوبهم أنّه الله، لأنهم يقولون إنهم يريدون أن يعبدوه. يمثل المجوس الشعوب الوثنية، ولا سيما جميع الذين بحثوا على مر القرون عن الله وانطلقوا في مسيرة لكي يجدوه. إنهم يمثلون أيضًا الأغنياء والأقوياء، وإنما فقط أولئك الذين ليسوا عبيدًا للتملك، والذين لا “تمتلكهم” الأشياء التي يعتقدون أنهم يملكونها.
إنَّ رسالة الأناجيل واضحة: ولادة يسوع هي حدث عالمي يطال جميع البشر. أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، وحده التواضع هو الطريق الذي يقودنا إلى الله، وفي الوقت عينه، لأنه يقودنا إليه، هو يقودنا أيضًا إلى جوهر الحياة، إلى معناها الحقيقي، والدافع الوثيق الذي من أجله تستحق الحياة أن تُعاش. وحده التواضع يفتح لنا خبرة الحقيقة والفرح الحقيقي والمعرفة المهمة. بدون تواضع نُصبح بعيدين عن فهم الله وأنفسنا. كان يمكن للمجوس أن يكونوا أيضًا عظماء بحسب منطق العالم، ولكنهم جعلوا من أنفسهم صغارًا ومتواضعين، ولهذا السبب بالذات تمكنوا من أن يجدوا يسوع ويتعرّفوا عليه. لقد قبلوا تواضع البحث، والانطلاق في رحلة، والطلب، والمجازفة، والوقوع في الأخطاء… كل إنسان، في أعماق قلبه، مدعو لكي يبحث عن الله، ويمكنه بفضل نعمته أن يجده. وبالتالي لنجعل صلاتنا أيضًا صلاة القديس أنسلموس: “علمني يا رب أن أبحث عنك. أظهر لي نفسك عندما أبحث عنك. لا يمكنني أن أبحث عنك، إذا لم تعلمني؛ ولا أن أجدك إذا لم تظهر لي نفسك. أعطني أن أبحث عنك وأنا راغب بك، وأن أرغب بك وأنا باحثٌ عنك! وأعطني أن أجدك عندما أبحث عنك وأن أحبّك عندما أجدك!”
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، أود أن أدعو جميع الرجال والنساء إلى مغارة بيت لحم لكي يعبدوا ابن الله المتجسد. أرغب في أن أضع في الصف الأول الفقراء، الذين – وكما يحث القديس بولس السادس – “علينا أن نحبهم، لأنهم بطريقة ما سر المسيح؛ وبهم – بالجياع، والعطاش، والمنفيين، والعراة، والمرضى، والسجناء – أراد المسيح أن يُشبّه نفسه. وبالتالي علينا أن نساعدهم ونتألم معهم ونتبعهم أيضًا، لأن الفقر هو الدرب الأكيد لكي نمتلك ملكوت الله بالكامل”. من ثم أريد ان أرافق إلى بيت لحم، كما فعل النجم مع المجوس، جميع الذين ليس لديهم قلق ديني، والذين لا يطرحون على ذواتهم مشكلة الله، أو حتى يحاربون الدين، وجميع الذين تُطلق عليهم بشكل غير لائق تسمية ملحدين. أريد أن أكرر لهم رسالة المجمع الفاتيكاني الثاني: “إنَّ الكنيسة تؤمن أن الاعتراف بالله لا يتعارض بأي شكل من الأشكال مع كرامة الإنسان، لأن هذه الكرامة تجد في الله أساسها وكمالها. […] إنَّ الكنيسة تعرف جيدًا أن رسالتها تنسجم مع التطلعات السريّة للقلب البشري”.
وختم البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعي بالقول لنعد إلى بيوتنا حاملين أمنيات الملائكة: “السَّلامُ في الأَرضِ لِلنَّاسِ فإنَّهم أَهْلُ رِضاه”. ولنتذكّر على الدوام أننا “لَسنا نَحنُ أَحبَبْنا الله، بل هو أَحَبَّنا… أَحَبَّنا قَبلَ أَن نُحِبَّه”. هذا هو سبب فرحنا: أن نعرف أن الله قد أحبَّنا دون أي استحقاق، وأنَّ الله يسبقنا دائمًا في المحبة، محبة ملموسة لدرجة أنها صارت جسدًا وجاءت لتقيم بيننا. وهذه المحبة لها اسم ووجه: يسوع هو اسم ووجه الحب الذي هو أساس فرحنا.
التعليقات مغلقة.