استهلَّ الأب الأقدس تعليمه الأسبوعي بالقول عندما يتعلق الأمر بالإنجيل ورسالة التبشير، يتحمس بولس. يبدو أنه لا يرى شيئًا سوى هذه الرسالة التي أوكلها الرب إليه. كل شيء فيه مكرس لهذا الإعلان، وليس له أي مصلحة أخرى سوى الإنجيل، ويبلغ به الأمر إلى حد القول: “إِنَّ المسيحَ لم يُرسِلْني لأُعَمِّد، بل لأُبَشِّر”. ويفسر بولس حياته بأسرها كدعوة للتبشير ويقول: “الوَيلُ لي إِن لم أبَشِّر!”. وإذ يكتب إلى مسيحيي روما، يقدم نفسه ببساطة على النحو التالي: “مِن بولُسَ عَبْدِ المسيحِ يسوع دُعِيَ لِيَكونَ رَسولاً وأُفرِدَ لِيُعلِنَ بِشارةَ الله”. باختصار، لقد كان يُدرك أنّه قد “فُصل” لكي يحمل الإنجيل للجميع، ولا يمكنه إلا أن يكرّس نفسه بكل قوته لهذه الرسالة.
تابع الأب الأقدس يقول لذلك يمكننا أن نفهم حزن وخيبة الأمل وحتى السخرية المريرة للرسول تجاه أهل غلاطية، الذين كانوا يسلكون في نظره طريقًا خاطئًا، سيقودهم إلى نقطة اللاعودة. إن المحور الذي يدور حوله كل شيء هو الإنجيل. فبولس لا يفكّر في “الأناجيل الأربعة”، كما هو الحال بالنسبة لنا. في الواقع، أثناء إرساله هذه الرسالة، لم يكُن قد كُتب بعد أي من الأناجيل الأربعة. بالنسبة له، الإنجيل هو ما كان يكرز به، إعلان موت وقيامة يسوع كمصدر للخلاص. إنجيل يُعبَّر عنه بأربعة أفعال: “المسيحَ ماتَ مِن أَجْلِ خَطايانا كما وَرَدَ في الكُتُب، وقُبِرَ وقامَ في اليَومِ الثَّالِثِ كما وَرَدَ في الكُتُب، وتَراءَى لِصَخْرٍ”. هذا الإنجيل هو تحقيق للوعود وهو الخلاص المقدم لجميع البشر. من يقبله يتصالح مع الله، ويُقبَل كابن حقيقي وينال الحياة الأبدية كميراث.
أضاف الحبر الأعظم يقول أمام هذه الهبة العظيمة التي أُعطيت إلى أهل غلاطية، لا يمكن للرسول أن يفهم سبب تفكيرهم في قبول “إنجيل” آخر. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء المسيحيين لم يكونوا قد تخلوا بعد عن الإنجيل الذي أعلنه بولس. إنَّ الرسول يعلم أنه لا يزال لديهم وقت لكي لا يقوموا بخطوة خاطئة، لكنه يحذرهم بشدة. تشير حجته الأولى مباشرة إلى حقيقة أن وعظ المبشرين الجدد لا يمكنه أن يكون الإنجيل، لا بل هو إعلان يشوه الإنجيل الحقيقي لأنه يمنع المرء من بلوغ إلى الحرية التي اكتسبها من الإيمان. إنَّ أهل غلاطية لا يزالون “مبتدئين” ويمكننا أن نفهم ارتباكهم. هم لا يعرفون بعد مدى تعقيد شريعة موسى والحماس في اعتناق الإيمان بالمسيح يدفعهم إلى الاستماع إلى الوعاظ الجدد، موهمين أنفسهم بأن رسالتهم تكمِّل رسالة بولس.
تابع الأب الأقدس يقول ومع ذلك، لا يمكن للرسول أن يخاطر بأن تُخلق تنازلات على مثل هذه الأرض الحاسمة. الإنجيل واحد وهو الذي أعلنه. لا يمكن أن يوجد آخر. ولكن لنتنبّه! إنَّ بولس لا يقول إن الإنجيل الحقيقي هو إنجيله لأنه هو الذي أعلنه، لا! سيكون هذا الأمر فظاظة، وسيكون مجدًا باطلاً. ولكنّه يؤكد أن “إنجيله”، الإنجيل عينه الذي أعلنه الرسل الآخرون في أماكن أخرى، هو الإنجيل الوحيد الحقيقي، لأنه إنجيل يسوع المسيح، ويكتب: “أُعلِمُكم، أَيُّها الإِخوَة، بِأَنَّ البِشارةَ الَّتي بَشَّرتُ بِها لَيسَت على سُنَّةِ البَشَر، لأَنِّي ما تَلقَّيتُها ولا أَخَذتُها عن إِنسان، بل بِوَحْيٍ مِن يسوعَ المسيح”. يمكننا أن نفهم إذًا لماذا يستخدم بولس مصطلحات قاسية جدًا. استخدم مرتين تعبير “فلْيَكُنْ مَحْرومًا” في إشارة إلى ضرورة أن يُبعَدَ عن الجماعة ما يُهدّد أساساتها. باختصار، لا يترك الرسول أي مجال للتفاوض حول هذه النقطة: لا يوجد حل وسط بالنسبة له: الإيمان بيسوع ليس سلعة يمكن التفاوض بشأنها، وإنما هو خلاص ولقاء وفداء.
أضاف الحبر الأعظم يقول يظهر هذا الموقف الذي تصفه بداية الرسالة متناقضًا، لأنّه يبدو أن المشاعر الطيبة هي التي تحرّك الفاعلين المعنيين، لأنَّ أهل غلاطية الذين يستمعون إلى المرسلين الجدد يعتقدون أنهم من خلال الختان سيكونون أكثر تكرُّسًا لمشيئة الله وبالتالي سيكونون أكثر مرضيين لبولس. أما أعداء بولس فيبدو أن ما يحركهم هو الأمانة للتقليد الذي نالوه من الآباء ويعتقدون أن الإيمان الحقيقي يكمن في الحفاظ الشريعة. وبالتالي وإزاء هذه الأمانة الفائقة، هم يبرِّرون حتى التلميحات والشكوك حول بولس، الذي يعتبرونه غير مستقيم إزاء التقليد. إن الرسول نفسه يدرك جيدًا أن رسالته هي ذات طبيعة إلهية، وبالتالي يحرّكه الحماس الكامل لحداثة الإنجيل، ويحمله قلقه الرعوي لكي يكون قاسيًا، لأنه يرى الخطر الكبير الذي يلوح في الأفق على الشباب المسيحيين. باختصار، وفي متاهة النوايا الحسنة هذه، من الضروري أن يحرّر المرء نفسه لكي يفهم الحقيقة الأسمى التي تتوافق بشكل أكبر مع شخص يسوع ووعظه وإعلانه لمحبة الآب. لهذا السبب، كانت كلمة بولس الواضحة والحاسمة مفيدة لأهل غلاطية وهي مفيدة لنا نحن أيضًا.
نقلاً عن فاتيكان نيوز
التعليقات مغلقة.