استهلَّ الأب الأقدس تعليمه الأسبوعي بالقول ندخل شيئًا فشيئًا في الرسالة إلى أهل غلاطية. لقد رأينا أن هؤلاء المسيحيين يجدون أنفسهم في صراع حول كيفية عيش الإيمان. يبدأ بولس الرسول في كتابة رسالته مذكراً إياهم بالعلاقات الماضية، وبانزعاجه بسبب البعد ومحبّته التي لا تتغير إزاء كل فرد منهم. ومع ذلك، هو لا يتوانى عن الإشارة إلى قلقه من أنه على أهل غلاطية أن يتّبعوا الطريق الصحيح: إنه اهتمام الأب الذي ولّد الجماعات في الإيمان. وقصده واضح جدًا: من الضروري إعادة التأكيد على حداثة الإنجيل، التي نالها أهل غلاطية من بشارته، لكي يبنوا الهوية الحقيقية التي يجب عليهم أن يؤسسوا عليها حياتهم.
تابع الأب الأقدس يقول نكتشف على الفور أن بولس هو خبير عميق في سر المسيح. منذ بداية رسالته لم يتبع الحجج السيئة التي استخدمها معارضوه. إن الرسول “يرتقي عالياً” ويوضح لنا أيضًا كيف نتصرف عندما تنشأ النزاعات داخل الجماعة. في الواقع، عند نهاية الرسالة فقط، يتم توضيح أن جوهر الخلاف الذي أثير كان الختان، وبالتالي من التقليد اليهودي الرئيسي. لقد اختار بولس الدرب لكي يذهب إلى العمق بشكل أكبر، لأن ما هو على المحك هو حقيقة الإنجيل وحرية المسيحيين التي هي جزء لا يتجزأ منه. ولذلك لم يتوقّف عند سطح المشاكل، كما نفعل غالبًا لكي نجد حلاً فوريًّا يوهم بأنه يجعل الجميع يتّفقون على حل وسطي. هذه ليست الطريقة التي يعمل بها الإنجيل وقد اختار الرسول اتباع الطريق الأكثر تطلبًا، ويكتب: “أَفتُراني الآنَ أَستَعطِفُ النَّاسَ أَمِ الله؟ هل أَتوَخَّى رِضا النَّاس؟ لَو كُنتُ إِلى اليَومِ أَتوَخَّى رِضا النَّاس، لَما كُنتُ عَبْدًا لِلمسيح”.
أضاف الحبر الأعظم يقول في المقام الأول، يشعر بولس بواجب تذكير أهل غلاطية بأنه رسول حقيقي ليس لاستحقاق خاص، وإنما لدعوة الله. فهو يروي قصة دعوته وارتداده، التي تزامنت مع ظهور المسيح القائم من بين الأموات أثناء الرحلة إلى دمشق. من المثير للاهتمام أن نلاحظ ما يقوله عن حياته قبل هذا الحدث: “لقَد سَمِعتُم بِسيرَتي الماضِيَةِ في مِلَّةِ اليَهود إِذ كُنتُ أَضطَهِدُ كَنيسةَ اللهِ غايةَ الاِضْطِهاد وأُحاوِلُ تَدميرَها وأَتقَدَّمُ في مِلَّةِ اليَهودِ كثيرًا مِن أَتْرابي مِن بَني قَومي فأَفوقُهم حَمِيَّةً على سُنَنِ آبائي”. كذلك يجرؤ بولس على أن يؤكد أنه في اليهودية قد تفوَّق على الجميع، إذ كان فريسيًا غيورًا حقيقيًّا، ويكتب “وأَمَّا في البِرِّ الَّذي يُنالُ بِالشَّريعة فأَنا رَجُلٌ لا لَومَ علَيه”. لمرّتين شدّد أنّه كان مُدافعًا عن تقاليد الآباء ومؤيِّدًا قويًّا للشريعة.
تابع البابا فرنسيس يقول من ناحية، هو يصر على التأكيد على أنه اضطهد الكنيسة بشدة وأنه كان ” مُجَدِّفًا مُضطَهِدًا عنيفًا”؛ ومن ناحية أخرى، هو يبرز رحمة الله تجاهه، التي تحمله لكي يعيش خبرة تحوّل جذريّة يعرفها الجميع ويكتب: “ولَم أَكُنْ مَعروفَ الوَجهِ في كَنائِسِ المَسيحِ الَّتي في اليَهودِيَّة، بل سَمِعوا فقَط أَنِ الَّذي كانَ يَضطَهِدُنا بِالأَمْسِ صارَ اليَومَ يُبشِّرُ بِالإِيمانِ الَّذي كانَ يحاوِلُ بالأَمْسِ تَدْميرَه”. وهكذا يسلط بولس الضوء على حقيقة دعوته من خلال التناقض المذهل الذي ظهر في حياته: من مُضطهد للمسيحيين لأنهم لم يحافظوا على التقاليد والشريعة، دُعي ليصبح رسولًا لكي يعلن إنجيل يسوع المسيح. ولكننا نرى ان بولس حرّاً: هو حرّ لكي يعلن الانجيل وليعترف بخطاياه. ” انا كنت هكذا ” أنها الحقيقة التي تمنح حرية للقلب، أنها حرية الله “.
أضاف الأب الأقدس يقول إذ نعيد التأمُّل في قصّته، نجد أنَّ بولس مفعم بالدهشة والامتنان. يبدو كما لو أنه يريد أن يخبر أهل غلاطية أنه كان من الممكن أن يكون أي شيء غير رسول. لقد نُشِّأ منذ صغره لكي يكون محافظًا كاملاً على شريعة موسى، وقد حملته الظروف إلى محاربة تلاميذ المسيح. ومع ذلك، حدث أمر غير متوقع: بنعمته، أظهر له الله ابنه المائت والقائم من بين الأموات، لكي يصبح مبشرًا له بين الوثنيين.
وختم البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعي بالقول كم هي غامضة طرق الرب! نحن نلمسه بأيدينا كل يوم، ولكن بشكل خاص إذا فكّرنا مجدّدًا باللحظات التي دعانا فيها الرب. لا يجب أن ننسى أبدًا الوقت والطريقة التي دخل بهما الله حياتنا: لنحافظ في قلوبنا وعقولنا على ذلك اللقاء مع النعمة، عندما غيّر الله حياتنا. كم من مرة، إزاء أعمال الرب العظيمة، يأتي السؤال العفوي: كيف يمكن أن يستخدم الله خاطئًا، شخصًا هشًّا وضعيفًا، ليحقق مشيئته؟ ومع ذلك، لا يوجد شيء عَرَضي، لأن كل شيء قد تمَّ إعداده في مخطط الله. هو ينسج تاريخنا، وإذا أجبنا بثقة على خطّته الخلاصيّة، فسنتنبّه لذلك. إنَّ الدعوة تتضمّن على الدوام رسالة مُعيّنة لنا؛ لذلك يُطلب منا أن نستعدَّ بجديّة، عالمين أن الله نفسه هو الذي يرسلنا ويعضدنا بنعمته. لنسمح لهذا الإدراك بأن يقودنا: إن أولوية النعمة تحوّل الحياة وتجعلها مُستحقّةً لأن تُوضع في خدمة الإنجيل وتستر جميع الخطايا، وتغير القلب والحياة وتجعلنا نرى طرقاً جديدة. لا ننسينّ هذا الأمر أبداً.
نقلاً عن فاتيكان نيوز
التعليقات مغلقة.