أجرى قداسة البابا فرنسيس مقابلته العامة واستهل تعليمه بالقول في ٨ من كانون الأول ديسمبر عام ١٨٧٠، أعلن الطوباوي البابا بيوس التاسع القديس يوسف شفيعًا للكنيسة الجامعة. وبعد ١٥٠ عامًا من هذا الحدث، نحن نعيش سنة مميّزة مكرسة للقديس يوسف، وفي الرسالة الرسولية “Patris corde “، جمعت بعض الأفكار عن شخصيته. واليوم أكثر من أي وقت مضى، في هذا الزمن المطبوع بأزمة عالمية ذات مكونات مختلفة، يمكن للقديس يوسف أن يكون عضدًا وتعزية ومرشدًا. لهذا السبب قررت أن أكرس له سلسلة تعاليم، أرجو أن تساعدنا أكثر لكي نسمح بأن ينيرنا مثاله وشهادته.
يوجد أكثر من عشرة أشخاص في الكتاب المقدس يحملون اسم يوسف. والأهم بينهم هو ابن يعقوب وراحيل، الذي ومن خلال مغامرات عديدة، تحول من عبد إلى ثاني أهم شخص في مصر بعد فرعون. اسم يوسف بالعبرية يعني “الله ينمِّي”. إنها أمنية، وبركة تقوم على الثقة في عناية الله، وتشير بشكل خاص إلى الخصوبة ونمو الأبناء. في الواقع، يكشف لنا هذا الاسم بالذات جانبًا أساسيًا من سمات شخصية يوسف الناصري. إنه رجل ممتلئ بالإيمان بالله، وعنايته. وكل عمل من أعماله التي رواها الإنجيل يمليه اليقين بأن الله “ينمّي”، “يزيد”، و”يضيف”، أي أن الله يهتم بأن يسير قدمًا بمشروعه للخلاص. وفي هذا الأمر، يشبه يوسف الناصري جدًا يوسف المصري. حتى المراجع الجغرافية الرئيسية التي تشير إلى يوسف: بيت لحم والناصرة، تلعب دورًا مهمًا في فهم شخصيته.
تُدعى مدينة بيت لحم في العهد القديم “بيث لِخِم” أي “بيت الخبز”، أو حتى إفراتة، بسبب القبيلة التي استقرت في تلك المنطقة. أما الاسم باللغة العربية فيعني “بيت اللحم“، ربما بسبب الكمية الكبيرة لقطعان الأغنام والماعز في المنطقة. وليس من قبيل المصادفة، في الواقع، أنه عندما ولد يسوع، كان الرعاة أول شهود على الحدث. وفي ضوء قصة يسوع، تُذكّر هذه الإشارات إلى الخبز واللحم إلى السر الإفخارستي: يسوع هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. وهو نفسه سيقول عن نفسِه: “مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة“.
يتم ذكر بيت لحم عدة مرات في الكتاب المقدس، بدءًا من كتاب سفر التكوين. ترتبط بيت لحم أيضًا بقصة راعوت ونعمي، التي يرويها كتاب سفر راعوت الصغير والرائع. ولدت راعوت ابنا سمّته عوبيد، ومنه ولد يسّى أب الملك داود. ومن نسل داود بالتحديد، يأتي يوسف، الأب الشرعي ليسوع. وعن بيت لحم تنبأ النبي ميخا أمورًا عظيمة: “أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ“. وسيستعيد متى الإنجيلي هذه النبوءة وسيربطها بقصة يسوع وبتحقيقها البديهي. في الواقع، لم يختَر ابن الله أورشليم كمكان لتجسده، وإنما بيت لحم والناصرة، قريتان في الضواحي، بعيدتان عن صخب الأخبار وسُلطة الزمن. ومع ذلك كانت أورشليم المدينة التي أحبها الرب، “المدينة المقدسة”، التي اختارها الله ليقيم فيها. هنا، في الواقع، كان يقيم علماء الشريعة، والكتبة والفريسيون، ورؤساء الكهنة وشيوخ الشعب.
يقول هذا هو السبب في أن اختيار بيت لحم والناصرة يخبرنا أن الله يحب الأطراف والتهميش. وعدم أخذ هذا الواقع على محمل الجد يعادل عدم أخذ على محمل الجد الإنجيل وعمل الله، والذي لا زال يظهر في الضواحي الجغرافية والوجوديّة. وبشكل خاص، يذهب يسوع بحثًا عن الخطأة، فيدخل بيوتهم، ويتحدث معهم، ويدعوهم إلى التوبة. في هذا الصدد، لم يكن المجتمع في ذلك الوقت مختلفًا تمامًا عن مجتمعنا. فاليوم أيضًا نجد المركز والضاحية. والكنيسة تعلم أنها مدعوة لكي تُعلن البشرى السارة انطلاقًا من الضواحي؛ وبالتالي فإن يوسف، الذي كان نجارًا من الناصرة ويثق في مشروع الله له ولخطّيبته، يذكّر الكنيسة بأن تحدق النظر على ما يتجاهله العالم عمداً. فهو يذكر كل فرد منا أن يعطي أهميّة لما يتجاهله الآخرون ويقصونه. وبهذا المعنى، يكون حقًا معلِّمًا في الجوهري: فهو يذكرنا بأن ما هو جدير حقًا لا يجذب انتباهنا، ولكنه يتطلب منا تمييزًا صبورًا لكي نكتشفه ونقدّره. لنطلب منه أن يتشفع حتى تستعيد الكنيسة كلها هذه النظرة وهذه القدرة على تمييز وتقييم الجوهري، ولننطلق مجدّدًا من بيت لحم ومن الناصرة.
وختم البابا فرنسيس تعليمه أريد اليوم أن أوجه رسالة إلى جميع الرجال والنساء الذين يعيشون في الضواحي الجغرافية المنسيّة في العالم أو الذين يعيشون في حالات تهميش وجودي. يمكنكم أن تجدو في القديس يوسف الشاهد والحامي الذي يمكنكم أن تنظروا إليه. ويمكننا أن نلجأ إليه بهذه الصلاة: أيها القديس يوسف، أنت الذي وثقتَ بالله على الدوام، وقمت بخياراتك مسترشدا بعنايته، علّمنا ألا نعتمد على مشاريعنا الخاصة وإنما على مخطط محبّته. أنت الذي أتيتَ من الضواحي ساعدنا لكي نحوِّل نظرنا ونفضِّل ما يُقصيه العالم ويُهمِّشه. عزِّ الذين يشعرون بالوحدة وأعضد الذين يلتزمون بصمت لكي يدافعوا عن الحياة والكرامة البشريّة. آمين.
نقلا عن فاتيكان نيوز
التعليقات مغلقة.