استهلَّ الاب الاقدس تعليمه الأسبوعي بالقول لقد سُجّلت لمرات عديدة في تاريخ الكنيسة تجربة ممارسة مسيحية حميمة، لا تعترف بالأهمية الروحية للطقوس الليتورجية العامة. وغالبًا ما ادعت هذه النزعة نقاء أكبر لتديُّن لا يعتمد على الاحتفالات الخارجية، التي يعتبرها عبئًا عديم الفائدة أو ضارًا. وفي وسط هذه الانتقادات، لم ينته شكل طقسي معين، أو طريقة معينة للاحتفال، وإنما الليتورجيا نفسها.
تابع الأب الأقدس يقول في الواقع، يمكننا أن نجد أشكالاً معينة من الروحانية في الكنيسة لم تعرف كيف تدمج اللحظة الليتورجية بشكل ملائم. وبالرغم من أن العديد من المؤمنين قد شاركوا بمواظبة في الطقوس، ولاسيما في قداس الأحد، لكنّهم استقوا الغذاء لإيمانهم وحياتهم الروحية من مصادر أخرى تَقَويّة. لقد سرنا كثيرًا خلال العقود الأخيرة. ويمثل الدستور في الليتورجيا المقدّسة “المجمع المقدس” للمجمع الفاتيكاني الثاني محور هذه الرحلة الطويلة. فهوه يعيد التأكيد بشكل كامل وعضوي على أهمية الليتورجيا الإلهية في حياة المسيحيين، الذين يجدون فيها الوساطة الموضوعية التي تتطلبها حقيقة أن يسوع المسيح ليس فكرة أو شعورًا، بل هو شخص حي، وسرُّه هو حدث تاريخي. تمر صلاة المسيحيين عبر وساطات ملموسة: الكتاب المقدس والأسرار والطقوس الليتورجية. وفي الحياة المسيحية، لا يمكننا أن نتجاهل المجال الجسدي والمادي، لأن يسوع المسيح من خلاله أصبح طريق الخلاص.
أضاف الحبر الأعظم يقول لذلك، لا توجد روحانية مسيحية غير متأصلة في الاحتفال بالأسرار المقدسة. يكتب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: “إن رسالة المسيح والروح القدس الذي، في ليتورجيا الكنيسة الأسرارية، يعلن ويحقق وينقل سر الخلاص، يستمر في القلب الشخص الذي يصلي” (عدد ٢٦٥٥). إنَّ الليتورجيا، في حد ذاتها، ليست فقط صلاة عفويّة، بل هي شيء أكثر أصالة: إنها فعل تقوم عليه الخبرة المسيحية بأكملها، وبالتالي الصلاة أيضًا. إنها حدث، حضور ولقاء. يُصبح فيه المسيح حاضرًا في الروح القدس من خلال العلامات الأسراريّة: ومن هنا تأتي حاجتنا كمسيحيين للمشاركة في الأسرار الإلهية. إنَّ المسيحية بدون الليتورجيا هي مسيحية بدون المسيح. حتى في أكثر الطقوس تجرّدًا، كتلك التي احتفل بها بعض المسيحيون ولا زالوا يحتفلون بها في أماكن السَّجن، أو في مخابئ البيوت خلال أزمنة الاضطهاد، يصبح المسيح حاضرًا حقًا ويهب ذاته لمؤمنيه.
تابع البابا فرنسيس يقول تطلب الليتورجيا، بسبب بُعدها الموضوعي تحديدًا، الاحتفال بها بحماسة، لكي لا تتشتت النعمة التي تفيض في الطقس وإنما لكي تبلغ حياة كل فرد. يشرح التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية هذا الأمر جيدًا: “إنَّ الصلاة تدخل في صميم الليتورجيا وتستوعبها أثناء وبعد الاحتفال بها”. إنَّ العديد من الصلوات المسيحية لا تأتي من الليتورجيا، ولكن جميعها، إذا كانت مسيحية، فهي تفترض الليتورجيا مسبقًا، أي الوساطة الأسرارية ليسوع المسيح. ففي كل مرة نحتفل فيها بالمعمودية، أو نكرس الخبز والنبيذ في الإفخارستيا، أو ندهن جسد مريض ما بالزيت المقدس، يكون المسيح هنا! يكون حاضرًا تمامًا كما كان حاضرًا عندما شف الأعضاء الضعيفة لشخص مريض، أو عندما سلّم في العشاء الأخير وصيته من أجل خلاص العالم.
أضاف الأب الأقدس يقول إن صلاة المسيحي تجعل حضور يسوع الأسراري خاصًا بها، وبالتالي يصبح ما هو خارجي عنا جزءًا منا: وتعبّر الليتورجيا عن هذا الأمر بتصرّف طبيعي جدًا يتمثل في الأكل. لا يمكن “الاستماع” إلى القداس فقط، وكأننا مجرد متفرجين على شيء ينزلق بعيدًا بدون أن يؤثر بنا ويُشركنا. يتم الاحتفال بالقداس دائمًا، ليس فقط من قبل الكاهن الذي يترأسه، وإنما من قبل جميع المسيحيين الذين يعيشونه. إنَّ المحور هو المسيح! وجميعنا، بتنوع المواهب والخدمات، نتحد جميعًا في عمله، لأنه هو رائد الليتورجيا.
وختم البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعي بالقول عندما بدأ المسيحيون الأوائل في عيش عبادتهم، قاموا بذلك من خلال تحقيق تصرفات وكلمات يسوع، بنور وقوة الروح القدس، لكيما تصبح حياتهم، إذا بلغَتها تلك النعمة، ذبيحة روحية مُقدَّمة لله. لقد شكّل هذا النهج “ثورة” حقيقية. يكتب القديس بولس في الرسالة إلى أهل روما: “إِنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللّهِ أَن تُقَرِّبوا أَشْخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله. فهذِه هي عِبادَتُكمُ الرّوحِيَّة”. إن الحياة مدعوّة لكي تصبح عبادة لله، لكن هذا الأمر لا يمكنه أن يحدث بدون الصلاة ولاسيما الصلاة الليتورجية.
نقلا عن فاتيكان نيوز
التعليقات مغلقة.