واستهل َّالأب الاقدس تعليمه الأسبوعي بالقول في مسيرة التعليم المسيحي حول الصلاة، نلتقي اليوم بمريم العذراء كامرأة مصلّية. عندما كان لا يزال العالم يجهلها، وكانت فتاة بسيطة مخطوبة لرجل من بيت داود، كانت مريم تصلي. يمكننا أن نتخيل هذه الشابة من الناصرة مستغرقة في الصمت، في حوار مستمر مع الله، الذي سيوكل إليها رسالتها قريبًا. هي ممتلئة بالنعمة وبريئة من دنس الخطيئة الأصليّة منذ الحمل بها، ولكنها لا تزال لا تعرف شيئًا عن دعوتها المدهشة والمميّزة وعن البحر العاصف الذي سيتعين عليها الإبحار فيه. شيء واحد مؤكد: مريم تنتمي إلى المجموعة الكبيرة لمتواضعين القلوب الذين لم يذكرهم المؤرخون الرسميون في كتبهم، ولكنَّ الله أعد من خلالهم مجيء ابنه.
إنَّ مريم لا توجه حياتها بشكل مستقل: هي تنتظر أن يأخذ الله زمام طريقها ويوجهها حيث يشاء. إنها مطيعة، وبجهوزيّتها تُعدّ الأحداث العظيمة التي يشارك فيها الله في العالم. إن التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية يذكرنا بحضورها الدائم والمحب في مخطط الآب وطول الحياة. كانت مريم تصلّي عندما جاء رئيس الملائكة جبرائيل ليبلغها بالبشارة في الناصرة. والـ “ها أنذا” التي قالتها، والتي جعلت في تلك اللحظة الخليقة بأكملها تهتزُّ فرحًا، قد سبقها في تاريخ الخلاص العديد من والـ “ها أنذا” التي قالها العديد من الأشخاص، الذين أطاعوا بثقة وتميّزوا بالجهوزيّة والاستعداد لمشيئة الله.
لا توجد طريقة أفضل للصلاة من الصلاة على مثال مريم العذراء في موقف انفتاح: “يا رب، ليكن ما تريده، متى تريد وبالطريقة التي تريدها”. كم من المؤمنين يعيشون صلاتهم بهذه الطريقة! لا يغضبون لأن الأيام مليئة بالمشاكل، بل يذهبون للقاء الواقع ويعرفون أنَّ في الحب المتواضع، الذي نقدّمه في جميع الظروف، نصبح أدوات لنعمة الله. إن الصلاة تعرف كيف تهدئ القلق وتعرف كيف تحوله إلى جهوزيّة. لقد عرفت العذراء مريم، في لحظات البشارة القليلة، أن تنبذ الخوف، بالرغم من أنها تكهّنت بأن الـ “نعم” ستسبب لها محنًا قاسية جدًّا. إذا فهمنا في الصلاة أن كل يوم يقدمه الله لنا هو دعوة، عندها سنوسّع قلوبنا ونقبل كل شيء، ونتعلم أن نقول: ” ليكن ما تريده يا رب. لكن عدني فقط بأنك ستكون حاضرًا في كل خطوة في طريقي”.
ترافق مريم بالصلاة حياة يسوع بأسرها، وصولاً إلى موته وقيامته. وترافق في النهاية الخطوات الأولى للكنيسة الأولى. صلّت مع التلاميذ الذين عبروا عار الصليب. صلّت مع بطرس الذي استسلم للخوف وبكى ندمًا. كانت مريم حاضرة بين الرجال والنساء الذين دعاهم ابنها ليكوِّنوا جماعته. صلّت معهم ومن أجلهم. ومرة أخرى، تسبق صلاتها المستقبل الذي على وشك أن يتحقق: بواسطة عمل الروح القدس أصبحت والدة الله، وبواسطة عمل الروح القدس، أصبحت أم الكنيسة. يشرح التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: “في إيمان أمتِهِ المتواضعة، وجدت عطية الله – أي الروح القدس – القبول الذي كان ينتظره منذ بداية الزمان” (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد ٢٦١٧).
في العذراء مريم، يتعزز حدس الأنثى الطبيعي من خلال اتحادها الفريد مع الله في الصلاة. لهذا السبب، عند قراءة الإنجيل، نلاحظ أنها تبدو أحيانًا وكأنها تختفي، لتظهر مرة أخرى في اللحظات الحاسمة: إن صوت الله هو الذي يوجه قلبها وخطواتها إلى حيث يكون حضورها ضروريًا.
وختم البابا فرنسيس بالقول: “كانَت مَريمُ تَحفَظُ جَميعَ هذهِ الأُمور، وتَتَأَمَّلُها في قَلبِها” هكذا يصور الإنجيلي لوقا والدة الرب في إنجيل الطفولة. كل ما يحدث حولها ينتهي به الأمر في أن يجد انعكاس في أعماق قلبها: الأيام المليئة بالفرح، كتلك اللحظات الحالكة، عندما تتعب هي أيضًا لفهم المسارات التي يجب أن يمر بها الفداء. كل شيء ينتهي في قلبها لكي تُمحِّصه الصلاة ويتجلى بها. سواء كانت هدايا المجوس، أو الهروب إلى مصر، وصولاً إلى جمعة الآلام الرهيبة: إن الأم تحفظ كلَّ شيء وتحمله في حوارها مع الله. لقد شبّه أحدهم قلب مريم بلؤلؤة روعتها لا تُضاهى، كوّنها ونقَّاها القبول الصبور لإرادة الله من خلال أسرار يسوع التي تأمّلتها في الصلاة. كم سيكون جميلًا إذا تمكّنا نحن أيضًا أن نتشبّه قليلاً بأمّنا! فتكون قلوبنا منفتحة على كلمة الله وصامتة ومطيعة، قلوب تعرف كيف تستقبل كلمة الله وتسمح لها أن تنمو كبذرة خير للكنيسة.
نقلا عن فاتيكان نيوز
التعليقات مغلقة.