واستهلَّ الاب الاقدس تعليمه بالقول خلال حياته العلنيّة، لجأ يسوع باستمرار إلى قوة الصلاة. تظهر لنا الأناجيل هذا عندما كان ينفرد في أماكن منعزلة للصلاة. هذه ملاحظات رصينة وسرية، تسمح لنا فقط بتخيل تلك الحوارات المصلِّية. ولكنها تشهد بوضوح أنه حتى في اللحظات التي كرّسها بشكل كبير للفقراء والمرضى، لم يترك يسوع أبدًا حواره الحميم مع الآب. وبقدر ما كان ينغمس بشكل أكبر في احتياجات الناس، كان يشعر بالحاجة إلى الراحة في شركة الثالوث.
لذلك يوجد في حياة يسوع سر، مخفي عن أعين البشر، ويمثل نقطة ارتكاز كل شيء. إن صلاة يسوع هي حقيقة غامضة، لا نفهم منها إلا شيئًا قليلاً، ولكنها تسمح لنا بقراءة رسالته بأكملها في المنظور الصحيح. ففي ساعات العزلة هذه – قبل الفجر أو في الليل – ينغمس يسوع في علاقته الحميمة مع الآب، أي في الحب الذي تعطش إليه كل نفس. وهذا ما يظهر منذ أول أيام خدمته العلنيّة.
ففي يوم السبت، على سبيل المثال، تتحول مدينة كفرناحوم إلى “مستشفى ميداني”: فعِندَ المَساء بَعدَ غُروبِ الشَّمْس، كان النَّاسُ يَحمِلونَ إِلَى يسوع جَميعَ المَرْضى، وكان يشفيهم. ولكن، قَبلَ الفَجْرِ مُبَكِّراً، كان يسوع يختفي: يخَرج ويذهَب إِلى مَكانٍ قَفْر، ليصلّي. فَانَطَلَقَ سِمْعانُ وأَصْحابُه يَبحَثونَ عَنه، فوَجَدوه وقالوا له: “جَميعُ النَّاسِ يَطلُبونَكَ”. وماذا أجابهم يسوع؟ “لِنَذهَبْ إِلى مَكانٍ آخَر، إِلى القُرى المُجاوِرَة، لِأُبشِّرَ فيها أَيضاً، فَإِنِّي لِهذا خَرَجْت”.
الصلاة هي الدفة التي توجه مسار يسوع؛ ليست نجاحات، وليس الإجماع، وليست تلك العبارة المغرية “جَميعُ النَّاسِ يَطلُبونَكَ” هي التي تملي مراحل رسالته. إن ما يرسم مسيرة يسوع هي الدرب الأقل راحة، ولكنّها تطيع إلهام الآب الذي يصغي إليه يسوع ويقبله في صلاته المنفردة. ويؤّكد التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: “عندما يصلّي يسوع، يعلّمنا الصلاة”. لذلك يمكننا من مثال يسوع أن نستنبط بعض خصائص الصلاة المسيحية.
أولاً هي تتحلّى بالأوّليّة: إنها الرغبة الأولى في اليوم، شيء يمُارس عند الفجر، قبل أن يستيقظ العالم. فهي تعيد الروح إلى ما كان سيبقى بدون نفس بدونها. إن اليوم المعاش بدون صلاة قد يتحول إلى تجربة مزعجة أو مملة: وكل ما يحدث لنا يمكنه أن يتحول إلى مصير أعمى يصعب تحمّله. فيما أنّ يسوع يربينا على طاعة الواقع وبالتالي على الإصغاء. فالصلاة هي أولاً الاصغاء إلى الله واللقاء به. عندها لا تتحوّل المشاكل اليومية إلى عقبات، وإنما إلى نداءات من الله لكي نصغي ونلتقي بمن هم أمامنا. وهكذا تتحول تجارب الحياة إلى فرصٍ لكي ننمو في الإيمان والمحبة. وتكتسب المسيرة اليومية، بما في ذلك التعب والجهود، منظار “دعوة”. إن الصلاة تملك القدرة على أن تحوّل إلى خير ما كان بإمكانه أن يكون دينونة في الحياة، هي تملك القدرة على أن تفتح أفقًا كبيرًا للعقل وأن توسّع القلب.
ثانيًا الصلاة هي فن يمارس بإصرار. جميعنا قادرون على الصلاة العرضية، والتي تنشأ من عاطفة لحظة؛ لكن يسوع يعلمنا نوعًا آخر من الصلاة: تلك التي تعرف نظامًا، وتمرينًا، وتدخل ضمن قاعدة حياة. تؤدي المثابرة على الصلاة إلى تحول تدريجي، يجعلنا أقوياء في أوقات الضيق، ويمنحنا نعمة أن يعضدنا ذاك الذي يحبنا ويحمينا على الدوام. ميزة أخرى لصلاة يسوع هي العزلة. إن الذي يصلّي لا يهرب من العالم، ولكنّه يفضّل الأماكن القفرة. لأن هناك، في الصمت، يمكنها أن تظهر العديد من الأصوات التي نخبّئها في داخلنا: أكثر الرغبات قمعًا، الحقائق التي نستمر في خنقها. وبشكل خاص، يتكلّم الله في الصمت. كل شخص يحتاج إلى فسحة لنفسه، حيث يمكنه أن ينمّي حياته الداخلية، وحيث تجد الأعمال معنى. بدون الحياة الداخلية نصبح سطحيين، مضطربين، قلقين؛ نهرب من الواقع ومن أنفسنا أيضًا.
وختم البابا فرنسيس تعليمه بالقول، صلاة يسوع هي المكان الذي ندرك فيه أن كل شيء يأتي من الله ويعود إليه. في بعض الأحيان، نعتقد نحن البشر أننا أسياد كل شيء، أو على العكس نفقد كل احترام لأنفسنا. وبالتالي تساعدنا الصلاة لكي نجد البعد الصحيح في العلاقة مع الله أبينا ومع الخليقة بأسرها. أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، لنكتشف مجدّدًا يسوع المسيح في الإنجيل كمعلم للصلاة، ولنضع أنفسنا في مدرسته، وأؤكّد لكم أننا سنجد الفرح والسلام.
نقلا عن فاتيكان نيوز
التعليقات مغلقة.