إنَّ العالم يحيا ويزدهر بفضل بركة البار وصلاة الرحمة التي يرفعها القديس على الدوام من أجل البشر في كل مكان وزمان من التاريخ” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في مقابلته العامة مع المؤمنين
استهل الأب الأقدس تعليمه بالقول في مسيرتنا حول موضوع الصلاة نتنبّه إلى أن الله لم يحب أبدًا أن يتعامل مع مصلّين “سهلين”. وموسى أيضًا لن يكون محاورًا سهلاً منذ اليوم الأول لدعوته. عندما دعاه الله كان موسى فاشلاً بحسب المعايير البشرية. ويقدّمه لنا سفر الخروج في أرض مديَن كشخص هارب. شعر منذ شبابه بالشفقة على شعبه وقد اصطفّ أيضًا من أجل الدفاع عن المُضطهَدين. لكنه عاجلاً ما سيكتشف أنه وبالرغم من نواياه الحسنة لن يجري على يديه العدل وإنما العنف. وها أحلام المجد تتحطّم: لم يعُد موسى موظّفًا واعدًا، كُتب له التقدُّم المهنيّ السريع وإنما شخص خسر فرصه وها هو الآن يرعى قطيعًا ليس له. وبالتالي وفي صمت صحراء مدين دعا الله موسى إلى وحي العلّيقة المشتعلة: “«أَنَا إِلَهُ أَبِيكَ، إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ». فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى اللهِ” (خروج ٣، ٦)
يعرض موسى مخاوفه واعتراضاته على الله الذي يتكلم ويدعوه ليعتني مجدّدًا بشعب إسرائيل: ليس أهلاً لتلك المهمة، لا يعرف اسم الله ولن يصدّقه الإسرائيليين وكان يتلعثم بالكلام… وأكثر كلمة نسمعها غالبًا على لسان موسى في كل صلاة يوجهها إلى الله هو السؤال “لماذا؟”. لماذا أرسلتني؟ لماذا تريد أن تحرّر هذا الشعب؟ نجد في التوراة أيضًا مقطعًا مأساويًّا حيث وبّخه الله لنقص ثقته، نقص سيمنعه من الدخول إلى أرض الميعاد.
كيف يمكن لموسى أن يصلّي بهذه المخاوف وهذا القلب الذي غالبًا ما يتردّد؟ يظهر موسى إنسانًا مثلنا، إذ أن هذا الأمر يحصل لنا أيضًا، وبالتالي ونحن نتأثّر لضعفه كما لقوّته أيضًا. أوكل إليه الله أن ينقل الشريعة لشعبه، وأسس العبادة الإلهية وكان وسيطًا لأسمى الأسرار ولكنه لم يتوقف أبدًا عن المحافظة على علاقات تضامن وثيقة مع شعبه ولاسيما عند ساعة التجربة والخطيئة. لقد كان موسى متعلّق بالشعب، ولم يفقد ابدًا ذكرى شعبه، وهذه هي عظمة الرعاة: عدم نسيان الشعب وعدم نسيان الجذور؛ تمامًا كما يقول القديس بولس للأسقف الشاب طيموثاوس: “أذكر أمّك وجدّتك، جذورك وشعبك”. لقد كان موسى صديقًا مقرّبًا من الله لدرجة أنه كان يكلّمه وجهًا لوجه؛ كذلك بقي صديقًا مقرّبًا من البشر لدرجة أنه شعر بالرحمة من أجل خطاياهم وتجاربهم وللحنين الذي كان يشعر به المنفيّون فجأة إلى الماضي ويفكّرون بالفترة التي كانوا فيها في مصر. وبالتالي فموسى ليس قائدًا متسلّطًا واستبداديًّا؛ لا بل يصفه سفر العدد على أنّه “كان حَلِيمًا جِدًّا أَكثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ عَلَى وَجهِ الْأَرْضِ”. فبالرغم من الامتياز الذي كان يتمتّع به حافظ موسى على انتمائه إلى أجواق فقراء الروح الذين يعيشون جاعلين من الثقة بالله زادًا لمسيرتهم.
بالتالي فإن صلاة موسى هي رمزًا مدهشًا لصلاة التضرّع (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد ٢٥٧٤). وإيمانه بالله يتّحد بحسِّ الأبوّة الذي يحمله تجاه شعبه. يصوّره الكتاب المقدّس عادة يداه مرتفعتان نحو العلى نحو الله ليشكّل تقريبًا بشخصه جسرًا بين السماء والأرض. حتى في الأوقات الأكثر صعوبة، حتى في اليوم الذي ترك الشعب الله وموسى كقائد لهم ليصنعوا عجلاً من ذهب، لم يترك موسى شعبه وقال لله: “قَد أَخطَأَ هَذَا الشَّعْبُ خَطِيَّةً عَظِيمَةً وَصَنَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ آلِهَةً مِنْ ذَهَبٍ. وَالآنَ إِن غَفَرْتَ خَطِيَّتَهُم، وَإِلَّا فَامْحُنِي مِن كِتَابِكَ الَّذِي كَتَبتَ” (خروج ٣٢، ٣١- ٣٢)
هذه هي الصلاة الحقيقية التي يعزّزها المؤمنون الحقيقيون في حياتهم الروحية؛ حتى وإن اختبروا نواقص الأشخاص وبعدهم عن الله؛ هؤلاء المصلّون لا يحكمون عليهم ولا يرفضونهم. إن موقف الشفاعة والتضرّع هو خاص بالقديسين الذين وتشبُّهًا بيسوع يشكّلون جسورًا بين الله وشعبه، وبهذا المعنى يشكل موسى النبي الأعظم ليسوع محامينا وشفيعنا.
وختم البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعي بالقول يدفعنا موسى لكي نصلّي بحماس يسوع عينه ولكي نتشفّع للعالم ونتذكّر أنّه بالرغم من ضعفه وهشاشته هو ينتمي دائمًا إلى الله. إنَّ العالم يحيا ويزدهر بفضل بركة البار وصلاة الرحمة التي يرفعها القديس على الدوام من أجل البشر في كل مكان وزمان من التاريخ.
التعليقات مغلقة.