في مقابلته العامة مع المؤمنين البابا فرنسيس يتحدّث عن صلاة يعقوب
استهل الأب الأقدس تعليمه بالقول: نتابع تعليمنا حول موضوع الصلاة. يخبرنا سفر التكوين، من خلال أحداث رجال ونساء حقبات بعيدة، قصصًا يمكننا أن نعكس فيها أحداث حياتنا. ففي سلسلة الآباء نجد أيضًا قصة رجل تميّز بالحنكة وهو يعقوب. تحدّثنا الرواية البيبلية عن علاقة يعقوب الصعبة مع أخيه عيسو. فمنذ صغرهما نجد تنافسًا بينهما لن يتمَّ تخطيه أبدًا. يعقوب هو الابن الثاني ولكنّه نجح بالخداع في أن يسرق من أبيه البركة وهبة البكريّة. وهذه هي فقط أول حيلة من سلسلة طويلة من الحيل التي يمكن لهذا الرجل عَدِيم الضَّمِير أن يقوم بها.
تابع البابا يقول وإذ أجبر على الهرب بعيدًا عن أخيه، يبدو أنّه كان ينجح في كلِّ ما كان يقوم به. كان ماهرًا في العمل وأصبح غنيًّا جدًّا ويملك قطيعًا كبيرًا. بشجاعة وصبر تمكّن من أن يتزوّج بأجمل بنت من بنات لابان والتي كان مغرمٌ بها حقًّا. وبالتالي يمكننا أن نقول بأسلوب عصري إن يعقوب هو رجل “قد صنع نفسَه بنفسِه” وبذكاء وحنكة تمكّن من الحصول على كل ما كان يرغب به.
في أحد الأيام شعر بالحنين إلى البيت ولوطنه القديم حيث كان لا يزال يقيم عيسو أخاه الذي كانت علاقته معه سيئّة على الدوام. فانطلق يعقوب وقام برحلة طويلة مع قافلة كبيرة من الأشخاص والحيوانات إلى أن وصل إلى المرحلة الأخيرة، إلى مَخَاضَةَ يَبُّوقَ. وهنا يقدّم لنا سفر تكوين صفحة لا تُنسى. يخبرنا أن يعقوب وبعد أن أَخَذَ أهله وماشيته وَأَجَازَهُمُ الوَادِيَ، بقي وحده على الشاطئ الآخر يفكر فيما ينتظره صباح اليوم الثاني وما سيكون موقف أخاه عيسو الذي كان قد سلبه بكريّته. وأصبح ذهن يعقوب دوامة من الأفكار… وفيما بدأ يخيّم الظلام أمسك به رجل غريب فجأة وبدأ يصارعه. يشرح التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: “حفظ التقليد الكنسي من هذه الرواية رمز الصلاة بكونها معركة الإيمان وانتصار الثبات” (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد (٢٥٧٣).
لقد صارع يعقوب طوال الليل بدون أن يُفلت خصمه، ولكنه خسر في النهاية لأن عدوّه ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِه عَلَى عِرقِ النَّسَا، ومنذ ذلك الحين أصبح يعقوب أعرجًا حتى نهاية حياته. لقد سأل ذلك المصارع السرّي يعقوب عن اسمه وقال له: “لَا يُدعَى اسمُكَ فِي مَا بَعدُ يَعْقُوبَ بَل إِسرَائِيلَ، لِأَنَّكَ جَاهَدتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرتَ” وَسَأَلَ يَعقُوبُ وَقَالَ: “أَخبِرنِي بِاسمِكَ”، لكنّه لم يخبره باسمه، بل باركه وفهم عندها يعقوب أنّه التقى الله “وجهًا لوجه”.
إن الصراع مع الله هو تشبيه للصلاة. في مرات أخرى أظهر يعقوب أنّه قادر على الحوار مع الله وعلى الشعور بحضوره وقربه كصديق. لكن في تلك الليلة، من خلال صراع دام طويلاً كان سيقضي عليه تقريبًا خرج يعقوب شخصًا آخر. لمرة لم يعد هو سيّد الموقف – ولم تعد حنكته مفيدة – ولم يعد ذلك الرجل الاستراتيجي والذي يحسب كل شيء؛ لقد أعاده الله إلى حقيقته كإنسانٍ مائتٍ يرجف ويخاف. لمرّة واحدة لم يكن يعقوب يملك ما يقدّمه لله غير ضعفه وعجزه. وهذا هو يعقوب الذي نال بركة الله والتي بها دخل أعرجًا أرض الميعاد: ضعيف ومُستضعف ولكن قلبه جديد. لقد كان في البداية واثق من نفسه يثق بحنكته وذكائه؛ لقد كان إنسان منيعًا ضدّ النعمة والرحمة لكنّ الله قد خلّص ما كان هالكًا. لقد جعله الله يفهم أنّه محدود وخاطئ وانّه بحاجة للرحمة وخلّصه.
جميعنا لدينا موعد في الليل مع الله، في ليل حياتنا ولحظاتنا المظلمة ولحظات الخطيئة، لدينا على الدوام موعد مع الله وهو سيفاجئنا في اللحظة التي لا نتوقّعها والتي سنجد فيها أنفسنا وحدنًا فعلاً. في تلك الليلة عينها وفي صراعنا ضدّ المجهول سندرك أننا مجرد أشخاص فقراء وضعفاء. ولكن في تلك اللحظة بالذات، عندما نشعر بهذا الضعف، لا يجب أن نخاف أبدًا لأنَّ الله في تلك اللحظة سيعطينا اسمًا جديدًا يحمل معنى حياتنا بأسرها وقلبنا، وسيمنحنا البركة المحفوظة للأشخاص الذين يسمحون له بأن يغيّرهم. إنها دعوة جديدة لكي نسمح لله أن يغيّرنا وهو يعرف كيف يقوم بذلك لأنّه يعرف كلّ فرد منا.
التعليقات مغلقة.