ما جاء من تعليم البابا فرنسيس ليوم الأربعاء 27 حزيران 2018
الامتنان هو سمة تميّز القلب الذي يسكنه الروح القدس
هكذا تبدأ الوصايا العشر: “أَنا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذي أَخَرجَكَ مِن أَرضِ مِصرَ، مِن دارِ العُبودِيَّة” (خر 20، 2). وقد تبدو هذه البداية غريبة عن نص الشريعة الفعليّة الذي يتبعها. ولكن الأمر ليس هكذا.
لماذا يقوم الربّ بهذا الإعلان عن ذاته وعن التحرير؟ لأنهم وصلوا إلى جبل سيناء بعد أن عبروا البحر الأحمر: إله إسرائيل يخلّص أوّلًا، ثم يطلب الثقة. بمعنى أن الوصايا العشر تبدأ بسخاء الله. الله لا يطلب شيئا أبدًا قبل أن يعطي أوّلاً. أبدًا. يخلّص أوّلاً، يعطي أوّلاً، ثم يسأل. هكذا هو أبونا، إله صالح.
لنفهم أهمّية الإعلان الأوّل: “أنا هو الربّ إلهك”. توجد “ملكيّة”، توجد علاقة، فالله ينتمي إلينا. الله ليس غريبا: إنه إلهك أنت, إن هذا ينير الوصايا العشر برمتها ويكشف أيضًا عن سرّ السلوك المسيحي، لأنه نفس سلوك يسوع الذي يقول: “كما أَحَبَّني الآب فكذلكَ أَحبَبتُكم أَنا أَيضًا” (يو 15، 9). المسيح هو محبوب الآب وهو يحبّنا بذات المحبّة. فهو لا ينطلق من ذاته إنما من الآب. إن أعمالنا غالبًا ما تفشل لأننا ننطلق من ذواتنا لا من الامتنان. مَنْ ينطلق من ذاته، إلى أين يصل؟… ينتهي إلى ذاته! إنه غير قادر على المسيرة بنفسه، يعود إلى نفسه. هذا هو بالتحديد التصرّف الأناني الذي، بسخرية، يقول عنه الناس: “هذا الشخص هو الـ “أنا“، “أنا“ معي “أنا“، وبالنسبة لي “أنا““. يخرج من نفسه ويعود إلى نفسه.
الحياة المسيحيّة هي قبل كلّ شيء الإجابة الممتنّة لآب سخيّ. والمسيحيّون الذين يتبعون مجرد “واجبات” يتذمرون من عدم عيش اختبار شخصي مع ذاك الإله الذي هو “إلهنا”. عليّ القيام بذلك، وذلك، وذلك… واجبات فقط. لكن ينقصك شيئًا! ما هو أساس هذا الواجب؟ أساس هذا الواجب هو محبّة الله الآب، الذي يعطي أوّلًا، ثم يطلب. وأن نضع الشريعة قبل العلاقة، لا يساعدنا في مسيرة إيماننا. كيف يمكن لشاب ما أن يرغب في أن يكون مسيحيّا، إن انطلقنا من واجبات، والتزامات، وتوافقات، وليس من التحرير؟ لكن أن نكون مسيحيًين فهذا يعني أننا في مسيرة تحرير! الوصايا تحرّرك من أنانيّتك وتحرّرك لأن محبّة الله تدفعك إلى الأمام. التنشئة المسيحيّة لا ترتكز على قوّة الإرادة، إنما على قبول الخلاص، على أن نسمح بأن نُحَبّ: أوّلًا البحر الأحمر، ثمّ جبل سيناء. الخلاص أوّلاً: الله ينقذ شعبه في البحر الأحمر. ثم في سيناء يقول له ما يجب عليه فعله. غير أن هذا الشعب يعرف أنه يقوم بهذه الأشياء لأن الآب الذي يحبّه قد خلّصه.
الامتنان هو سمة تميّز القلب الذي يسكنه الروح القدس؛ كي نطيع الله يجب أوّلًا أن نتذكّر كلّ حسناته. يقول القدّيس باسيليوس: “وحدُه مَنْ لا يُسقِط في بحر النسيان هذه الحسنات، يتوجّه نحو الفضيلة الصالحة ونحو كلّ عمل بار” (قواعد مختصرة، 56). إلى أين يقودنا كلّ هذا؟ يقودنا إلى القيام بتمرينٍ للذاكرة : كم من الأمور الجميلة قد حقّقها الله لكلّ واحد منّا! كم هو سخيّ أبونا السماوي! الآن أودّ أن أقترح عليكم تمرينا صغيرا، بصمت، وكلّ فرد يجيب في قلبه. كم من الأشياء الجميلة قد صنعها الله لي؟ هذا هو السؤال. بصمت، كلّ واحد منّا يجيب. كم من الأشياء الجميلة قد صنعها الله لي؟ هذا هو تحرير الله. فالله يصنع الكثير من الأشياء الجميلة ويحرّرنا.
برغم ذلك، يمكن لشخص ما أن يشعر أنه لم يعش بعد اختبارًا حقيقيًّا لتحرير الله. من المحتمل أن يحدث هذا. قد ننظر ربما إلى داخلنا ونجد فقط حسّ الواجب، روحانية العبيد وليس روحانية الأبناء. ماذا علينا أن نصنع في هذه الحالة؟ كما صنع الشعب المختار. يقول سفر الخروج: “كانَ في هذه المُدَّةِ الطَّويلةِ أَنْ ماتَ مَلِكُ مِصر. وكانَ بَنو إسْرائيلَ يَتَنَهَّدونَ مِن عُبودِيَّتِهِم، فصَرَخوا وصَعِدَ صُراخُهم إِلى اللهِ مِنَ العُبودِيَّة. فسَمِعَ اللهُ أَنينَهم وذَكَرَ عَهدَه مع إِبْراهيمَ وإِسحقَ وَيعْقوب. ونَظَرَ اللهُ إِلى بَني إِسْرائيلَ وعَرَفَ اللهُ” (خر 2، 23- 25). الله يفكر فيّ.
إن عمل الله المحرّر المذكور في بداية الوصايا العشر هو الإجابة على هذه الشكوى. نحن لا نخلّص أنفسنا بأنفسنا، إنما بإمكان صرخة استغاثة أن تخرج منّا: “يا ربّ، خلّصني، يا ربّ علّمني الطريق، يا ربّ أعطني بعض الفرح”. هذه صرخة معونة. إن الأمر مرتبط بنا: أن نطلب أن نُحرّر من الأنانيّة، والخطيئة، وأغلال العبوديّة. هذه الصرخة مهمّة، إنها صلاة، إنها وعي بما يزال مكبوتًا وغير محرّر فينا. هناك الكثير من الأمور في روحنا لم تُحَرَّر بعد. “خلّصني، ساعدني، حرّرني”. إنها صلاة جميلة للربّ. الله ينتظر هذه الصرخة، لأنه يقدر ويريد أن يحلّ قيودنا؛ فالله لم يدعونا إلى الحياة كي نبقى مكبوتين، بل كي نصبح أحرارًا ونحيا بالامتنان، طائعين بفرح للذي قد منحنا الكثير، أكثر بكثير ممّا يمكننا أبدًا أن نعطيه. هذا جميل. ليكن الله مباركًا للأبد لكلّ ما صنعه، وسوف يصنعه فينا!
*****
الكتاب المقدّس:
مِن سفر تثنية الاشتراع (4، 32- 35)
“والآن فسَلْ عنِ الأَيَّام الأُولى الَّتي كانَت مِن قَبْلِكَ: […] هل كانَ مِثْلُ هذا الأَمرِ العَظيم أَو هل سُمِعَ بمِثْلِه؟ وهل سَمعَ شَعبٌ صَوتَ إِلهٍ يَتَكلَمُ مِن وَسَطِ النَّار، كما سَمِعتَ أَنتَ، وبَقِيَ على قَيدِ الحيَاة، أَو هل حاوَلَ إِلهٌ أَن يَأتِيَ ويَتَّخِذَ لَه أُمَّةً من وَسْطِ أُمَّةٍ بِتَجارِبَ وآياتٍ وخَوارِقَ وحُروبٍ ويَدٍ قَوَّيةٍ وذِراعٍ مَبْسوطةٍ ومَخاوفَ عَظيمة، مِثلِ كُلِّ ما صنعَ لَكمُ الرَّب إِلهُكم بِمِصرَ أَمامَ عَينَيكَ؟ فقَد أُريتَ ذلك لِتَعلَمَ أَنَّ الرَّبَّ هو الإِله وأَن لَيسَ آخَرُ سِواه”.
كَلام الرَّبِّ
التعليقات مغلقة.